سورة يونس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} كلامٌ مستأنف مسوقٌ لبيان شأنِ الحياةِ الدنيا وقصرِ مدة التمتعِ بها وقربِ زمانِ الرجوع الموعودِ، وقد شبِّه حالُها العجبية الشأنِ البديعةُ المثالِ المنتظمةُ لغرابتها في سلك الأمثالِ في سرعة تقضِّيها وانصرامِ نعيمها غِبَّ إقبالِها واغترارِ الناسِ بها بحال ما على الأرض من أنواع النباتِ في زوال رونقِها ونضارتِها فجأةً وذهابِها حُطاماً لم يبق لها أثرٌ أصلاً بعد ما كانت غضّةً طرية قد التف بعضُها ببعض وزُيِّنت الأرضُ بألوانها وتقوّت بعد ضعفِها بحيث طمِع الناسُ وظنوا أنها سلِمت من الجوائح، وليس المشبَّهُ به ما دخله الكافُ في قوله عز وجل: {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض} بل ما يفهم من الكلام فإنه من التشبيه المركب {مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام} من البقول والزروعِ والحشيش {حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا} جُعلت الأرضُ في تزينها بما عليها من أصناف النباتاتِ وأشكالِها وألوانِها المختلفة المونقةِ آخذةً زخْرُفَها على طريقة التمثيلِ بالعروس التي قد أخذت من ألوان الثيابِ والزَّيْن فتزيّنت بها {وازينت} أصله تزينت فأدغم، وقرئ على الأصل وقرئ {وأزْينت} كأغيلت من غير إعلالٍ والمعنى صارت ذاتَ زينةٍ وازْيانَّت كابياضّت {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} متمكنون من حصدها ورفعِ غَلّتها {أَتَاهَا أَمْرُنَا} جوابُ إذا أي ضرب زرعَها ما يجتاحه من الآفات والعاهات {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا} أي زرعَها وسائرَ ما عليها {حَصِيداً} أي شبيهاً بما حُصد من أصله {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} كأن لم يغنَ زرعُها والمضافُ محذوفٌ للمبالغة وقرئ بتذكير الفعل {بالامس} أي فيما قبلُ بزمان قريبٍ فإن الأمسَ مثلٌ في ذلك كأنه قيل: لم تغنَ آنفاً {كذلك} أي مثلَ ذلك التفصيلِ البديعِ {نُفَصّلُ الآيات} أي الآيات القرآنيةَ التي من جملتها هذه الآيةُ المنبهةُ على أحوال الحياةِ الدنيا أي نوضّحها ونبيِّنها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في تضاعيفها ويقفون على معانيها، وتخصيصُ تفصيلِها بهم لأنهم المنتفعون بها، ويجوز أن يرادَ بالآيات ما ذُكر في أثناء التمثيلِ من الكائنات والفاسداتِ وبتفصيلها تصريفُها على الترتيب المحكيِّ إيجاداً وإعداماً فإنها آياتٌ وعلاماتٌ يستدل بها من يتفكر فيها على أحوال الحياةِ الدنيا حالاً ومآلاً.
{والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام} ترغيبٌ للناس في الحياة الأخرويةِ الباقيةِ إثرَ ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناسَ جميعاً إلى دار السلامةِ عن كل مكروهٍ وآفةٍ وهي الجنةُ، وإنما ذُكرت بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معَرْضاً للآفات أو إلى دار الله تعالى وتخصيصُ الإضافةِ التشريفية بهذا الاسم الكريمِ للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلّم الله أو الملائكةُ فيها على من يدخلها أو يسلم بعضُهم علي بعض {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} هدايتَه منهم {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إليها وهو الإسلامُ والتزودُ بالتقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيصِ الهدايةِ بالمشيئة دليلٌ على أن الأمرَ غيرُ الإرادة وإن من أصر على الضلالة لم يُرِد الله رشده.


{لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي أعمالَهم أي عمِلوها على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزمُ لحسنها الذاتي، وقد فسره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك» {الحسنى} أي المثوبةُ الحسنى {وَزِيَادَةٌ} أي ما يزيد على تلك المثوبة تفضلاً لقوله عز اسمه: {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} وقيل: الحسنى مثلُ حسناتِهم والزيادةُ عشرُ أمثالهِا إلى سبعمائة ضعفٍ وأكثر، وقيل: الزيادةُ مغفرةٌ من الله ورِضوانٌ، وقيل: الحُسنى الجنةُ والزيادة اللقاء {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} أي لا يغشاها {قَتَرٌ} غبرةٌ فيها سوادٌ {وَلاَ ذِلَّةٌ} أي أثرُ هوانٍ وكسوفُ بالٍ، والمعنى لا يرهقهم ما يرهَق أهلَ النار أو لا يرهَقُهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوءِ الحالِ، والتنكيرُ للتحقير أيْ شيءٌ منهما والجملةُ مستأنفةٌ لبيان أمنِهم من المكاره إثرَ بيان فوزِهم بالمطالب والثاني وإن اقتضى الأولَ إلا أنه ذُكر إذكاراً بما ينقذهم الله تعالى منه برحمته، وتقديمُ المفعولِ على الفاعل للاهتمام بيان أن المصونَ من الرهَق أشرفُ أعضائِهم وللتشويق إلى المؤخر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر تبقى النفسُ مترقبةً لوروده فعند ورودِه عليها يتمكن عندها فضلُ تمكن ولأن في الفاعل ضربَ تفصيلٍ كما في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} وقوله عز وجل: {وَجَاءكَ فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} {أولئك} إشارةٌ إلى المذكروين باعتبار اتصافِهم بالصفات المذكورةِ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعدِ للإيذان بعلو درجتِهم وسموّ طبقتِهم أي أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجميلةِ الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره {أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} بلا زوالٍ دائمون بلا انتقال.
{والذين كَسَبُواْ السيئات} أي الشركَ والمعاصيَ وهو مبتدأٌ بتقدير المضافِ خبرُه قوله تعالى: {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي جزاءُ الذين كسبوا السيئاتِ أن يجازى سيئةً واحدةً بسيئة مثلها، لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة، وتغييرُ السبكِ حيث لم يقل: وللذين كسبوا السيئاتِ السوآى لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتبايُن، وإيرادُ الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعِهم وبسبب جنايتِهم على أنفسهم، أو الموصولُ معطوفٌ على الموصول الأولِ كأنه قيل: وللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها كقولك: في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ وفيه دلالةٌ على أن المرادَ بالزيادة الفضلُ {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وأيُّ ذلةٍ كما ينبىء عنه التنوينُ التفخيميُّ، وفي إسناد الرَهق إلى أنفسهم دون وجوهِهم إيذانٌ بأنها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعاً وقرئ {يرهَقهم} بالياء التحتانية {مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي لا يعصِمُهم أحدٌ من سُخطه وعذابِه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى مَن يعصمهم كما يكون للمؤمنين، وفي نفي العاصمِ من المبالغة في نفي العصمةِ ما لا يخفى، والجملةُ مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَت وُجُوههم قطعاً مِنَ اللَّيْلِ} لفرط سوادِها وظلمتِها {مُظْلِماً} حالٌ من الليل والعاملُ فيه أغشيت لأنه العاملُ في قِطَعاً وهو موصوفٌ بالجار والمجرور والعاملُ في الموصوف عاملٌ في الصفة، أو معنى الفعلِ في {مِنَ الليل} وقرئ {قِطْعاً} بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال:
افتحي الباب وانظُري في النجوم *** كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم
فيجوزُ كونُ مظلماً صفةً له أو حالاً منه وقرئ {كأنما يغشى وجوهَهم قِطعٌ من الليل مظلمٌ}، والجملةُ كما قبلها مستأنفةٌ أو حال من ضمير ترهقهم {أولئك} أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة {أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} وحيث كانت الآيةُ الكريمةُ في حق الكفارِ بشهادة السياقِ والسباقِ لم يكن فيها تمسك للوعيدية.


{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} كلامٌ مسأنفٌ مسوقٌ لبيان بعضٍ آخرَ من أحوالهم الفظيعةِ، وتأخيرُه في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالِهم المحكيةِ سابقاً للإيذان باستقلال كلَ من السابق واللاحقِ بالاعتبار، ولو روعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لعُدَّ الكلُّ شيئاً واحداً كما مر في قصة البقرة ولذلك فصل عما قبله، ويومَ منصوبٌ على المفعولية بمضمر أي أنذرْهم أو ذكرْهم، وضمير نحشُرهم لكلا الفريقين الذين أحسنوا والذين كسبوا السيئاتِ لأنه المتبادرُ من قوله تعالى: {جَمِيعاً} ومن أفراد الفريقِ الثاني بالذكر في قوله تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخَهم وتهديدَهم على رؤوس الأشهادِ أفظعُ والإخبارُ بحشر الكلِّ في تهويل اليومِ أدخل، وتخصيصُ وصفِ إشراكهم بالذكر في حيز الصلةِ من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخِ والتقريعِ عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظمَ جناياتِهم وعمدةَ سيئاتِهم، وقيل: للفريق الثاني خاصةً فيكون وضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لما ذكر آنفاً {مَكَانَكُمْ} نُصب على أنه في الأصل ظرفٌ لفعيل أقيم مُقامه لا على أنه اسمُ فعل، وحركتُه حركةُ بناءٍ كما هو رأيُ الفارسي، أي الزَموه حتى تنظُروا ما يفعل بكم {أَنتُمْ} تأكيدٌ للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسدَّه {وَشُرَكَاؤُكُمْ} عطفٌ عليه وقرئ بالنصب على أن الواوَ بمعنى مع {فَزَيَّلْنَا} من زيّلت الشيء مكانه أُزيِّله أي أزلتُه، والتضعيف للتكثير لا للتعدية وقرئ {فزايلنا} بمعناه نحو كلّمتُه وكالمته وهو معطوفٌ على نقول، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على التحقق المورِّثِ لزيادة التوبيخِ والتحسيرِ، والفاءُ للدِلالة على وقوع التزييل ومباديه عقيبَ الخطابِ من غير مُهلةٍ إيذاناً بكمال رخاوةِ ما بين الفريقين من العلاقة والوصلةِ أي ففرقنا {بَيْنَهُمْ} وقطّعنا أقرانَهم والوصائل التي كانت بينهم في الدنيا لكن لا من الجانبين بل من جانب العبَدةِ فقط لعدم احتمالِ شمولِ الشركاءِ للشياطين كما سيجيء فخابت آمالُهم وانصرمت عُرى أطماعِهم وحصل لهم اليأسُ الكليُّ من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم، والحالُ وإن كانت معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب لكن هذه المرتبةَ من اليقين إنما حصلت عند المشاهدةِ والمشافهةِ، وقيل: المرادُ بالتزييل التفريقُ الحسيُّ أي فباعدنا بينهم بعد الجمعِ في الموقفِ وتبرُّؤ شركائِهم منهم ومن عبادتهم كما في قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} فالواو حينئذ في قوله تعالى: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} حاليةٌ بتقدير كلمةِ قد عند من يشترطها وبدونه عند غيرِه ولا عاطفة كما في التفسير الأول لاستدعاء المحاورةِ المحاضرةَ الفائتةَ بالمباعدة وليس في ترتيب التزييلِ بهذا المعنى على الأمر بلزوم المكانِ ما في ترتيبه عليه بالمعنى الأول من النكتة المذكورةِ ليُصار لأجل رعايتِها إلى تغيير الترتيبِ الخارجيِّ فإن المباعدةَ بعد المحاورةِ حتماً، وأما قطعُ الأقران والعلائق فليس كذلك بل ابتداؤُه حاصلٌ من حين الحشر، بل بعضُ مراتبه حاصلٌ قبله أيضاً وإنما الحاصلُ عند المحاورةِ أقصاها كما أشير إليه اعتداداً بما في تقديمه من التغيير لا سيما مع رعاية ماذكر من النكتة، ولو سلم تأخرُ جميعِ مراتبِه عن المحاورة فمراعاةُ تلك النكتةِ كافيةٌ في استدعاء تقديمِه عليها ويجوز أن تكون حاليةً على هذا التقديرِ أيضاً، والمرادُ بالشركاء قيل: الملائكةُ وعُزيرٌ والمسيحُ وغيرُهم ممن عبدوه من أولي العلم ففيه تأييدٌ لرجوع الضميرِ إلى الكل وقولهم: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ}
عبارةٌ عن تبرئهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءَهم وشياطينَهم الذين أغوَوْهم لأنها الآمرةُ لهم بالإشراك دونهم كقولهم: {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} الآية، وقيل: الأصنامُ يُنطِقها الله الذي أنطق كلَّ شيء فتُشافِهُهم بذلك مكانَ الشفاعةِ التي كانوا يتوقعونها.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10